نقد كتب السيرة :
لعلّ النظر إلى تراث السلف الصالح ـ ولاسيَّما سيرة الرسول الكريم ـ بنظرة التقـديس ، هو الّذي أدّى بالمؤلِّفين في السيرة على اختلاف طبقاتهم أنْ لايقفوا موقف الناقد البصير ، فلم نَرَ منهم من يعرض لما تحمله السيرة بين دفتيها من أخبار ضعيفة بعيدة عن الحقيقة لينقدها ويأتي على نقاط الضعف فيها ، فهذا ماحرمه هذا العلم في جميع أدواره السالفة إلى عهدنا هذا الأخير ، حيث أخذ المستشرقون والمتأثّرون بهم يتناولون خبرا أوْ خبرين
(31)
من السيرة وسيلة للطّعن في شخص النبي الكريم صلىاللهعليهوآله أوْ مايتصل به ، فآمن بعض أصحاب الأقلام الجديدة بأنّ في السيرة أخبارا لاتمتّ إلى الحقّ بصلة في قليل ولاكثير ، ثمَّ تجرّؤوا فأقدموا على تهذيب السيرة مِمّا اُلصق بها وهي ليست منها ، كقصة شقّ الصدر والغرانيق(1) وغرام الرسول صلىاللهعليهوآله بزوجة زيد ربيبه !
إنّ سيرة محمد صلىاللهعليهوآله كسائر العظماء اُضيف إليها ماليس منها ، إمّا عن حبٍ وهوى وحسن نيّة وطويّة ، وإمّا عن حقد وسوء قصد متعمّد ، ولكنّها تمتاز عن سير جميع العظماء بأنّ شيئا كثيراً منها ضمّه الوحي الإلهي وضمن حفظه القرآن الكريم ، وكثيراً منها مرويّ على لسان الحفّاظ الثّقات من المحدّثين . فعلى هذه الاُسس الصحيحة يجب أنْ تُبنى السيرة ، وأنْ تُحلّل التحليل العلميّ النزيه بملاحظة ظروف الوسط وحال البيئة وجوانبها المختلفة من عقائد ونظم وعادات وتقاليد وطقوس ، وأنْ لايُبنى الأساس على المعجزات والكرامات وخوارق العادات إلاّ ماخرج بالدليل بل يُبنى على أساس «إنّ اللّه أبى أنْ يُجري الأشياء إلاّ بأسباب»(2) اللهمّ إلاّ ما خرج بالدليل الثابت المعقول .
الخلاف في كتب السيرة وبينها :
إنّ الدارس لكتب السيرة والتأريخ يلاحظ أنّ ماروته من أنباء الخوارق والمعجزات وغيرها من كثير من الأنباء ، ينقص ثمّ يزيد بزيادة
(1) اُنظر ملخّص القصّة في ذيل الصفحة التالية.
(2) اُصول الكافي 1 : 183 ، عن الصادق عليهالسلام .
(32)
الأزمان التي وضعت فيها هذه الكتب ، فقديمها أقلّ رواية للخوارق من متأخّرها ، وماورد من الخوارق في الكتب القديمة أقلّ بعداً عن مقتضى العقل مِمّا ورد في كتب المتأخّرين .
فهذه سيرة ابن هشام أوْ قُل ابن إسحاق أقدم السِّير المعروفة اليوم تغفل كثيرا عمّا ذكره أبو الفداء في تأريخه وماذكره القاضي عياض في «الشفاء» وعن جميع كتب المتأخرين تقريبا .
فلا بدّ للباحث من أنْ يقبل لنفسه مقياساً يعرض عليه مااتّفقوا عليه ومااختلفوا فيه ، فما صدّقه هذا المقياس أقرّه وأقرّ به وقرّبه ، وما لم يصدّقه فلم يورده بل يردّه»(1) .
وهناك سبب آخر يوجب تمحيص ماورد في كتب السلف ونقده نقداً علمياً دقيقاً ، هو أنّ أقدمها كُتب بعد وفاة النبي بمائة سنة أوْ أكثر ، وبعد أنْ
أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الاُخرى » أضاف إليها « تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى » ثم أتمّ السورة فسجد وسجد المسلمون والمشركون !
(1) مثلاً : إنّ قصة الغرانيق التي تذهب إلى أن النبي لما ضاق ذرعا بسادات قريش فتلا عليهم سورة النجم حتّى إذا بلغ فيها إلى قوله سبحانه «
وقد رواها ابن إسحاق ثم قال : إنّها من وضع الزنادقة . وذكرها ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» فقال «ذكروا قصّة الغرانيق ، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها في مواضعها ، إلاّ أنّ أصل القصّة في الصحيح ، ثمّ ذكر حديثا عن البخاري في أمرها وأردفه بقوله «انفرد به البخاري دون مسلم» .
أمّا الّذي يتخذ عصمة الرسول في تبليغ الرسالة مقياسا للأخذ والردّ ، فلا يتردد في نفي القصّة من أساسها ، بل يتّفق مع ابن إسحاق في أ نّها من وضع الزنادقة ، ويكتفي في ردّها بما فيها من نقض ما للرسول من عصمة في تبليغ رسالة ربّه ، كما تقتضي ذلك قواعد النقد العلمي ، كما فعل هيكل في كتابه : 48 و161 ـ 147 .
(33)
فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية كان اختلاق الروايات والأحاديث من وسائلها للغلبة على خصومها ، فكيف بما كُتب متأخراً في أشدّ أزمان الاضطرابات والقلاقل ؟ وكيف بما ورد في المتأخِّر من كُتب السيرة ؟ فهل يمكن الأخذ به بدون تمحيص بدقّة علميّة ؟ وقد أدّت المنازعات السياسية وغيرها الّتي حدثت بعد الصدر الأول من الإسلام ، إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييداً لها ، هذا والحديث لم يدُوّن إلى أواخر عصر الأمويين .
ذلك لأنّ عمر عزم على ذلك فأصبح يوماً يقول : إنّي كنت أردت أنْ أكتب السنن ، ثمّ عدلت عن كتابتها ، فإنّي ـ واللّه ـ لا أشوب كتاب اللّه بشيءٍ أبداً ! ثمّ كتب إلى الأمصار بذلك يقول : من كان عنده شيء غير القرآن فليمحُه ! وظل الأمر كذلك ـ ما عدا عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه الحسن عليهماالسلام ـ حتّى أمر عمر بن عبد العزيز بجمع الحديث(1) .
أمّا كيف روى مثل البخاري مثل قصّة الغرانيق ـ مثلاً ـ ؟ فقد اعتذر عن مثل ذلك النووي في شرحه لصحيح مسلم قال : «أخذ جماعة على البخاري ومسـلم أحاديث أخلاّ بشرطيهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه» وقد التزما بمقياس السند والثقة بالرواية في قبول الحديث ورفضه ، ولكنّه وحده غير كاف لذلك .
بل إنّ خير مقياس يقاس به الحديث والخبر عن النبي ما روي عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «إنّكم ستختلفون من بعدي ، فما جاءكم عني
(1) طبقات ابن سعد 3 : 206 .
(34)
فاعرضوه على كتاب اللّه فما وافقه فمنّي وماخالفه فليس منّي»(1) فهو مقياس صحيح أخذ به كثير من الثقات ، وهو يتفق مع قواعد النقد العلمي ، وقال ابن خلدون بشأنه : «إنّني لا أعتقد صحة سند حديث ولاقول صحابي عالم يخالف ظاهر القرآن ، وإنْ وثّقوا رجاله ، فَرُبَّ راوٍ يوثّق للاغترار بظاهر حاله وهو سيّء الباطن . ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها كما تنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثيرٍ من الأسانيد بالنقض . وقد قالوا : إنّ من علامة الحديث الموضوع : مخالفته لظاهر القرآن ، أوْ القواعد المقرّرة في الشريعة ، أوْ لبرهان العقل ، أوْ الحسّ والعيان وسائر اليقينيّات» .
حقّا إنّ اختلاف المسلمين بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوآله بلغ حدّاً دعا الدعاة فيهم إلى اختلاق الآلاف المؤلّفة من الأحاديث والروايات .
لمّا قُتل عثمان وبدأت الحروب الداخلية بين المسلمين بخصومة خصماء علي عليهالسلام ، وأيّد أمير المؤمنين من أيّده ، ثمّ استتبّ الأمر لبني اُميّة جعل المحدّثون المتّصلون ببني اُميّة يضعّفون مايُروى عن علي بن أبي طالب عليهالسلام وفضائله ، وكما جعل أنصار عائشة يشيعون عنها مايؤيّد دعواها .
ومن طريف مايُروى في ذلك : مارواه الذهبي في ترجمة إسماعيل بن المثنّى الاسترآبادي : كان يَعِظُ بدمشق ، فقام إليه رجل فسأله عن قول النبيّ : أنا مدينة العلم وعلي بابها ؟ فأطرق إسماعيل لحظة ثمّ رفع رأسه وقال : نعم لايعرف هذا الحـديث عن النبيّ إلاّ من كان في صدر الإسلام ، إنّما قال النبيّ : أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها
(1) لم نعثر على هذه الرواية بهذا النص في الجوامع الحديثية ولكن ورد مضمونها في البحار 2 : 225 .
(35)
وعليّ بابها ! فسُّر الحاضرون بذلك ، فسألوه أن يخرج لهم إسناده ، فوعدهم به(1) وذكر القصة ابن عساكر فقال : فأنعم ولم يخرجه لهم(2) . أجل ، هكذا كانت الأحاديث تلفّق لأغراض سياسية ولأهواء عاجلة حتّى كَثُرت وشاعت .
هذا ، وقد تولّى كتّاب السيرة كتابتها ـ كما مر خبرها ـ للخلفاء : فابن إسحاق كتب سيرته للمنصور وابنه المهدي ، والواقدي كتب مغازيه للرشيد ووزيره يحيى بن خالد البرمكيّ ، اللهُمَّ إلاّ هشام الكلبي والمدائني فإنّهما لم يكتبا لأحد منهم ، ولكنّهم كلهم ماكان لهم أنْ ينازعوا مع الخليفة في آرائه خوفاً منه ، ولذلك فإنّه لا ينطبق على ماكتبوه مقاييس الصحة بدقّة .
ومن أمثلة الاختلاف في النقل الّذي يبدأ بذكر معجزة نراها تزيد بزيادة الزمان إلى معاجز : ماحدث في أثناء مسيرة جيش العسرة إلى تبوك :
فقد روى ابن هشام قال : «قال ابن إسحاق : فلمّا أصبح الناس ولاماء معهم شكوا ذلك إلى رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم ـ فدعا رسول اللّه ، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حتّى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء»(3) .
أمّا صحيح مسـلم فيروي قصّة تبوك بصورة اُخرى لاتقتصر على هذه المعجزة بل تزيدها زيادة كثيرة على غير ماورد في سيرة ابن إسحاق :
(1) لسان الميزان 1 : 422 .
(2) تأريخ ابن عساكر 3 : 34 وانظر كتاب : فتح الملك العلي بصحة حديث مدينة العلم علي : 156 ط ـ الحيدرية ـ النجف الأشرف . بتحقيق الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني النجفي .
(3) السيرة النبوية ؛ لابن هشام 3 و 4 : 522 .
(36)
فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن معاذ بن جبل : «أنّ النبيّ قال لمن سار معه إلى تبوك : إنّكم ستأتون ـ إنْ شاء اللّه ـ غدا عين تبوك ، وإنّكم لن تأتوها حتّى يضحى النهار ، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئا حتّـى آتي . فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان ، والعين مثل الشرك تَبِضّ بشيء من ماء . فسألهما رسول اللّه : هل مَسَستما من مائها شيئا ؟ قالا : نعم ، فسبّهما النبيّ وقال لهما ماشاء اللّه أنْ يقول ( ! ) ثمّ غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً حتّى اجتمع في شيء غسل رسول اللّه فيه يديه ووجهه ثمّ أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر ـ أوْ قال : غزير ـ حتّى استقى الناس ، ثمّ قال : يامعاذ يوشك ـ إنْ طالت بك الحياة ـ أنْ ترى ما هاهُنا قد ملىء جِنانا»(1) فهل ارتوى المسلمون في طريق تبوك بماء العين المنهمر ـ بعد السباب ! ـ أم بمطر من سـحاب بدعاء مستجاب من نبيٍّ مجاب ؟ أَليس في القليل الأول غنى عن الثاني الكثير ؟ ! اللهُمَّ إلاّ أنْ نبني على ترجيح الحديث الأكثر إعجازا ولانقتنع بالقليل منه !
هذا وقـد روى ابن إسحاق بعد روايته خبر السحابة خبرا آخر يؤيده قال : «فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال : قُلتُ لمحمود بن لبيد : هَلْ كان الناس يعرفون النّفاق فيهم ؟ قال : نعم واللّه إنْ كان الرجل ليعرفه من أخيهِ ومن أبيهِ ومن عمّهِ وفي عشيرتهِ ، ثمّ يلبس بعضهم بعضا على ذلك ، ولقد أخبرني رجال من قومي قالوا : لمّا كان من أمر الماء بالحجر ماكان ودعا رسـول اللّه حين دعا فأرسل اللّه السحابة فأمطرت حتّى ارتوى الناس قالوا : أقبلنا على رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير
(1) صحيح مسلم 7 : 60 ط 1332 .
(37)
مع رسول اللّه حيث سار ، فقلنا له : ويحك ! هَلْ بعد هذا شيء ؟ فقال : «سحابة مارّة» اللهُمَّ إلاّ أنْ يكون ذكر كثرة النّفاق في بعض الصحابة مِمّا يشنع ذكره ويسوء بعض الناس ، وإنْ كان لم يحذفه ابن هشام ، واختار مسلم ماسلم من ذكره ، وهذا هو الراجح في الظن .
شرائط دراسة التأريخ :
لا شكّ في أنّ البحث في التأريخ أمر خطير وعمل شاق جداً ، فالباحث فيه كمن يريد أنْ يلج بحراً خضماً هائجاً ، وإنّما يمدّ ببصره إلى قاعه ليغنم منه لآلئه ودراريه .
والباحث في التأريخ إنْ كان يطمح من بحثه إلى إحقاق الحقّ وازهاق الباطل ، فإنّه لايتسنى له ذلك إلاّ إذا كان واسع الإطلاع ، بعيد النظر ، شديد الحب للحق ، موطّنا نفسه على اتّباعه ، مبتعدا عن التعصب المذهبيّ المقيت ، ورعاً في إصدار الأحكام ، خبيراً بطرق الاستنباط ، عارفاً بأمراض التأريخ وعلله ، مُلمّا بظروفه ومراحله ، مؤثِرا مصلحة الإسلام والمسلمين على ماسِواها ، متحرر الفكر ، غير مشدود لما وَرثه من أهله وقومه .
وذلك لمساس التأريخ ـ ولاسيَّما سيرة الرسول الكريم ـ بمختلف نواحي الحياة . فمنه تؤخذ العقيدة الدينية ، وأحكام الإسلام ، ومعارفه وعلومه ، وأدبه وأخلاقه ، و على أساسه تقول الأجيال كلمتها في كل شيء ، و على ضوئه تحكم على كل شيء .
وقد ابتلي التأريخ والسيرة ـ ككثير من الاُمور ـ بنظرتين مفُرطة واُخرى مفرّطة :
فمِن مقبل على التأريخ والسيرة مكبّ على أخذ مافيه ، غثّه و سمينه ،
(38)
ينتهل منه ريّه في كلّ جوانب الحياة ، ويعتبره من أسلم المسلّمات بها ، دون حذر عمّا داخله من الدسِّ والخرافات بعيداً عمّا نبّه إليه الرسول من حتميّة ظهور المفترين عليه ، غير معتبر بما اعترف به الزنادقة الملحدون مِمّا رواه المؤرخون : أ نّهم وضعوا آلاف الأحاديث كذبا على اللّه ورسوله حلّلوا بها الحرام وحرّموا بها الحلال ، وأزالوا بها الحقّ عن نصابه ، وزوّروا كثيرا من الأحاديث الصحيحة وافتعلوا الكرامات والمناقب حبّا في المال والمناصب .
وآخرون فرّطوا فيه فغلّبوا التشاؤم وتنكّروا للتأريخ جملةً وتفصيلاً ، اتهموه ببعض مافيه وتحاملوا عليه ، وجعلوا ذلك حجة لاِعراضهم عنه وابتعادهم منه . وذلـك ظلم قبيح وفصم لعرى الأجيال ، وحرمان للمتأخرين من دروس الماضي ، وهدم لبناء الدّين وطعن في تعاليم الأنبياء الّذين حَثّوا على تدارس الماضي والاسـتماع إليه ، مع تمحيص الحقّ عمّا علق به من شوائب الباطل .
وبين هاتين النزعتين المفرطة والمفرّطة تنجلي النمرقة الوسطى باهتمام مفكّري المسلمين وعلمائهم بالدراسات التأريخية ، وبذل الوسع لإماطة اللثام عن كثيرٍ من جوانبه الّتي بدت قائمة مشوهة بفعل الدّخلاء عليه ، مِمّن جنّدوا أنفسهم لهدم الدّين وطمس معالم الحقّ والتجنّي عليه(1) .
طمس معالم الحقّ :
قلنا نعرض الروايات ـ الّتي يُدّعى أ نّها تسجّل سيرة الرسول الكريم صلىاللهعليهوآله ـ على القرآن الحكيم ، ذلك لانّا لو راجعنا وصف هذا النبيّ
(1) مقدمة : دراسات في التأريخ الاسلامي : 8 ، 9 للشيخ محمد باقر الناصري بتصرف .
(39)
العظيم في القرآن الكريم ، لوجدناه يصفه بأ نّه : « على خُلقٍ عظيم »(1) و« خاتم النبيين »(2) ينهى الناس عن الإستخفاف به « لا تجعلوا دُعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا »(3) ويلعن الّذين يؤذونه « إنّ الّذين يؤذون اللّه و رسوله لعنهم اللّه »(4) .
ولكنّا لو راجعنا بعض تلك الروايات الّتي يُدّعى أ نّها تسجّل لنا سيرته لوجـدناه فيها : طفلاً كسائر الأطفال ، ورجلاً يتكلّم كسائر الجهّال ، بل أضعف عقلاً من سائر العقّال ، فهو بحاجة دائمة إلى من يشرف عليه ويدبّر شؤونه ، ويأخذ بيده ويرشده ، ويحلّ له مشاكله ويشدّ قلبه ويطمئنه ، ويؤيّده ويساعده ، وإلاّ فهو يغضب فيكون غضبه عجزاً واضطراباً بل وسباباً(5) ويرضى فيكون رضاه سخفا وميوعة !
وإلاّ فكيف نفسّر : أ نّه رأى الرأي فنزلت الآيات تصوّب رأي غيره وتفنّد رأيه ، فقعد يبكي ؟ ! وأ نّه كان له شيطان يعتريه ويأتيه في صورة جبرئيل ! ثمّ أعانه اللّه عليه فأسلم ! ولعلّه مِن فعل شيطانه أ نّه مرّ على سباطة قوم فبال قائما ! ثمّ شرب النبيذ ؟ ! ثمّ إنّه رأى زوجة ابنه بالتبنّي في حالة مثيرة فعشقها ! وإنّه كان يعشق عائشة حتّى أ نّه حملها على عاتقه بطلبها لتنظر إلى رقص السودان في مسجده ، وخدّها على خدّه ! ثمّ إنّه ترك الجيش لينفرد بزوجته ليسابقها في الصحراء !
(1) القلم : 4 .
(2) الاحزاب : 40 .
(3) النور : 63 .
(4) الاحزاب : 57 .
(5) كما مرّ عن صحيح مسلم .
(40)
والطامة الكُبرى الّتي شملت شيخ الأنبياء إبراهيم : انّه كان أولى بالشكّ من إبراهيم ! إلى ماهُنالك مِمّا يزيد في قبحه على ماذكر أكثر بكثير ، كلّ ذلك مِمّا «قد فاجأتنا به الأنباء والسِّير» في المجاميع الحديثة وكُتب السيرة ! وفيها عـن حياته الزوجية مانتذمّر من ذكره فضلاً عن القيام بأمره ! وأدهى مافي الأمر وأمرّ أ نّها مدوّنة في الكتب الّتي تُوصف بأنها أصحّ كتاب بعد الذكر الحكيم ، وهي تحاول أنْ تصوّر لنا سيدنا ومولانا ونبيّنا أفضل الأنبياء والمرسلين وأشرف السفراء المقرّبين ! !
قال محقِّقو سيرة ابن هشام في مقدِّمتهم : «ولعلّ النظر إلى تراث السالفين ولاسيَّما مايتصل منه بعلم السِّير نظرة فيها الكثير من التقديس ، هو الّذي حال دون هؤلاء وهؤلاء أنْ يقفوا من هذا العلم موقفاً فقدناه في جميع المؤلفين المتقدّمين على اختلاف طبقاتهم ، فلم نَرَ منهم من عرض لما تحمله السِّير بين دفتيها من أخبار تتّصف بالبعد عن الحقيقة ، فنقدها وأتى على مواضع الضعف منها .
هذا ماحرمه هذا العلم في جميع أدواره السالفة إلى ماقبل أيّامنا هذه بقليل ، إذ رَأَيْنا الإيمان بأنّ في السيرة أخباراً لا تتصل بالحقّ في قليلٍ ولاكثيرٍ ، تصحبه الجُرأة ثمّ الإقدام ، ورَأَيْنا فكرة جديدة تجري بها أقلام مجدّدة ، يتناول أصحابها الخبر أوْ الخبرين من السيرة ، مِمّا كان يُتخَذ مطعنا علينا في شخص النبيّ ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ أوْ مايتصل به ، فخلّصوه مِمّا لصق به مِمّا ليس منه ، وأقاموا حوله سياجا من الحجج والبراهين ، صحّ بها وأصبح حجة على الطاعنين فيه .
ومثل هذا مافعله الاُستاذ الإمام الشيخ مُحمّد عبده في قصّة النبيّ ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ ، وتزويجه زينب بنت جحش من زيد بن حارثة ثمّ
(41)
ماكان من تزوّج الرسول ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ إيّاها بعد تطليق زيد لها مِمّا أرجف فيه الطاعنون ولغوا لغواً كثيراً .
ومنهم من عرض للكتاب في قصّة أوْ قصّتين منه فصاغها في اُسلوب جديد ، ومثّل للناس الخبر في قالب قصصيّ خرج به عن أسانيده وذكر رواته ـ تلك الطريقة الّتي هي سرّ تقديس هذه الأخبار في هذه الكتب ! ـ فبدت المعاني في هذا القالب الجديد كما يبدو الجسـد في الغلالة الرقيقة لاتكاد تُخفي منه شيئا . وهذا الاُسلوب الجديد بما يتضمن من التّهكم بالفكرة السقيمة والخبر الغث ، يخلق به المؤلف في القارىء روح التحفّظ في قبول الأفكار وتسلّمها .
ومنهم من جرى مع ابن إسحاق في شوطه ، فتناول السيرة كما تناولها ابن إسحاق ، مبتدئا بميلاد الرسول صلىاللهعليهوآله وما سبقه أوْ عاصره من حوادث ، ثمّ جرى يذكر حياة الرسـول إلى أنْ قبضه اللّه إلى جواره ، ناقلاً من الأخبار مايرى فيها القرب من الحقّ ، و مستبعدا مالايجري في ذلك مع فكرته ومايعتقد ، مفندا مزاعم الطاعنين رادّاً على المكذبين . فجاء كتابه سيرة للرسول جديدة في اسلوبها ، نقية من اللغو والهراء»(1) .
أجل ، إذا كان المُراجع إلى هذه المَراجع ـ الصحاح وغيرها ـ مليء النفس بتقديس النصّ تقديسا عشوائيا ساذجا ، فهو يمتنع ويمنع عن تقويم النصوص تقويما سليما يزنها بميزان الإعتبار .
ولا مبرر لهذا التقديس ما لم يثبت أنّ هذا الحديث مِمّا صدر عنه أوْ من شؤونه أوْ من صفاته ، اللهُمَّ إلاّ إذا كان لايعرف شيئا مِمّا يجب أنْ يتوفر
(1) مقدمة سيرة ابن هشام 1 : ح ، ط .
(42)
في شخص رسول اللّه وخليفته وحجته على عباده ، وكان خالي الذهن عن المنطلقات الأساسية والضوابط الحقيقية الّتي يجب أنْ يتوفر عليها من يحاول دراسة التأريخ بصورة علميّة ، وسيرة الرسول الكريم بصورة خاصة(1) .