الفصل الثاني
كيف نشأ النبي صلىاللهعليهوآله
(240)
آباء النبي صلىاللهعليهوآله
اِيمان عبد المطلب :
قال المسعودي : قد تنازع الناس في عبد المطلب : فمنهم من رأى اَنّ عبد المطلب وغيره من آباء النبي ـ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم ـ كان مشـركاً اِلاّ من صحّ اِيمانه . ومنهم من رأى اَنّ عبد المطلب كان مؤمناً موحداً وأ نّه لم يشرك باللّهِ عزّ وجلّ ، ولا اَحد من آباء النبي ـ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم ـ واَنه نقل في الأصلاب الطاهرة ، واَنه ـ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم ـ اَخبر : انَه وُلد من نكاح لا من سفاح . وهذا موضع فيه تنازع بين الإمامية وغيرهم من الفرق في النصّ والأختيار : وليس كتابنا هذا للحجاج فنذكر حجة كلّ فريق منهم .
وكان عبد المطلب يوصي ولده بصلة الأرحام واِطعام الطعام ويرغّبهم ويرهّبهم فعل من يرقب معاداً وبعثاً ونشوراً ، وقد أوصى أبا طالب بالنبي
(241)
ـ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم ـ(1) .
وروى الصدوق في (الخصال) بسنده عن الصادق عليهالسلام : اَنّ النبي ـ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم ـ قال لعلي عليهالسلام : اِنّ عبد المطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجـراها اللّه له في الإسلام : حرّم نساء الآباء على الأبناء وأنزل اللّه عزوجل « ولاتنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء »(2) ووجد كنزاً(3) فأخرج منه الخمس وتصدّق به ، وأنزل اللّه عزوجل « واعلموا انّ ماغنمتم من شيءٍ فان للّه خمسه »(4) . ولمّا حفر بئر زمزم سمّـاها : سقاية الحاج ، وأنزل اللّه عزّ وجلّ « أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر »(5) . وسنّ عبد المطلب في القتل مائة من الإِبل فأجرى اللّه ذلك في الإسلام . ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسنّ فيهم عبد المطّلب سبعة أشواط فأجرى اللّه ذلك في الإسلام . يا علي ! اِنّ عبد المطّلب كان لا يستقسم بالأزلام ، ولا يعبد الأصنام ، ولا يأكل ما ذبح على النصب ، ويقول : أنا على دين أبي اِبراهيم عليهالسلام (6) .
وروى الكليني في (الكافي) رواية عن الصادق عليهالسلام بثلاث طرق : عن مقرن وزرارة ومفضّل بن عمر عنه عليهالسلام قال : يحشر عبد المطلب يوم القيامة
(1) مروج الذهب 2 : 103 و 108 .
(2) النساء : 22 .
(3) يمكن أن يكون المقصود منه ما وجده ممّا كانت جرهم قد دفنته في بئر زمزم من هدايا الكعبة ، كما مرّ .
(4) الأنفال : 41 .
(5) التوبة : 19 .
(6) الخصال : 312 ط غفاري .
(242)
أُمّةً وحده ، عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك(1) .
وروى الشيخ المفيد في (الإختصاص) بسنده عن عبد الرحمن بن خالد مولى المنصور العباسي قال : اَخرج اليَ بعض ولد سليمان بن علي العبّاسي كتاباً بخطّ عبد المطّلب واِذا هو شبيه بخطّ الصبيان وهو : بسمك اللهم ، ذكر حقّ عبد المطلب بن هاشم من اَهل مكّة على فلان بن فلان الحميري من اَهل زول(2) صنعاء ، عليه ألف درهم فضة طيبة كيلاً بالحديد ، ومتى دعاه بها أجابه ، شهد اللّه والملكان(3) . وهذا يدلّ على اِيمانهِ باللّه والملائكة .
وقال اليعقوبي : اِنّه كان يوحّد اللّه عزّوجلّ ، وقد رفض عبادة الأصنام ، وسنّ سنناً سنّها رسـول اللّه ونزل بها القرآن ، وهي : الوفاء بالنذر ، ومائة من الإبل في الديّة ، واَن لا تنكح ذات محرم ، ولا تؤتى البيوت من ظهورها ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموؤدة والمباهلة ، وتحريم الخمر ، وتحريم الزنا والحدّ عليه ، والقرعة ، وأن لا يطوف أحد بالبيت عريانا ، واِضافة الضّيف ، واَن لا ينفقوا اِذا حجّوا اِلاّ من طيب أموالهم ، وتعظيم الأشهر الحرم ، ونفي ذوات الريات فكانت قريش تقول : عبدالمطلب ابراهيم الثاني(4) .
(1) اُصول الكافي 1 : 446 و 447 ، اي وحده في الايمان دون معاصريه .
(2) ذكره ياقوت في معجم البلدان فقال: اسم مكان باليمن وجد بخط عبد المطلب بن هاشم.
(3) الإختصاص : 123 ط غفاري وذكره ابن النديم في الفهرست . ولا نؤكد نسبة الكتاب الى الشيخ المفيد .
(4) اليعقوبي 2 : 10 ، 11 ط بيروت .
(243)
وقال الشهرستاني في (الملل والنحل) : كان يأمر ولده بترك الظلم والبغي ويحثُّهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيّات الاُمور ، وكان يقول في وصاياه : إنّه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتّى يُنتقم منه وتصيبه عقوبة ، وهلك رجل ظلوم لم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطلب في ذلك ففكّر فقال : واللّه إنّ وراء هذه الدار دارا يُجزى فيها المحسن بإحسانه ويُعاقب فيها المسيء بإساءته(1) .
أبناء عبد المطلب والذبيح منهم :
روى الصدوق في (الخصال) بسنده عن الصادق عن أبيه عليهماالسلام عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال : سئل رسول اللّه صلىاللهعليهوآله عن ولد عبد المطّلب فقال : عشرة والعباس . يعني أحد عشر رجلاً .
ثمّ قال الصدوق : أسنّهم الحارث ـ وبه كان يكنّى عبد المطلب ـ وعبد العزّى وهو أبو لهب ، وأبو طالب ـ وهو عبد مناف ـ وضرار ، والزبير ، والغيداق ، والمقوم ، والحجل ، وحمزة ، والعبّاس ، وعبداللّه(2) .
وروى فيه بسنده عن الباقر عليهالسلام قال : كان عبدالمطّلب ولد له تسعة ، فنذر في العاشر : إن رزقه اللّه غلاماً : اَنْ يذبحه فلمّا ولد عبداللّه لم يكن يقدر اَن يذبحه ورسول اللّه صلىاللهعليهوآله في صلبه ، فجاء بعشر من الأبل وساهم عليها وعلى عبد اللّه ، فخرجت السهام على عبداللّه ، فزاد عشراً ، فلم تزل
(1) الملل والنحل للشهرستاني نقلاً عن البحار 15 : 121 . وللتفصيل انظر الصحيح 1 : 149 ـ 154 .
(2) الخصال : 452 ، 453 .
(244)
السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشراً ، فلمّا اَن بلغت مائة خرجت السهام على الإبل ، فقال عبـد المطّلب : ما أنصفت ربّي ، فأعاد السهام ثلاثاً فخرجت على الإبل فقال : الآن علمت اَنّ ربّي قد رضي ، فنحرها(1) .
وروى في (عيون الأخبـار) بسنده عن علي بن الحسين بن فضّال قال : سألت الرضا عليهالسلام عن معنى قول النبي صلىاللهعليهوآله : أنا ابن الذبيحين ؟ قال : «يعني اِسماعيل بن اِبراهيم الخليل عليهالسلام وعبد اللّه بن عبد المطّلب» الى اَن قال : «فانّ عبدالمطّلب كان قد تعلّق بحلقة باب الكعبة ودعا اللّه اَن يرزقه عشـرة بنين ، ونذر للّه عزّوجل اَنْ يذبح واحداً منهم متى أجابَ اللّه دعوته .
فلمّا بلغوا عشرة قال : قد وفى اللّه لي ، فلأوفين للّه عزوجل : فأدخل ولده الكعبة وأسهم بينهم ، فخرج سهم عبد اللّه أبي رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وكان أحبّ ولده اِليه ، ثمّ اَجـالها ثانية فخرج سهم عبد اللّه ، ثمّ اَجالها ثالثةً فخرج سـهم عبد اللّه ! فأخذه وعزم على ذبحه ! فاجتمعت قريش ومنعته من ذلك ، واجتمع نساء عبد المطّلب يبكين ويصحن ، وقالت ابنته عاتكة : ياأبتاه اعذر فيما بينك وبين اللّه في قتل ابنك . قال : وكيف اعذر يا بنيّه ؟ قالت : اعمد الى تلك السوائم الّتي لك في الحرم فاضرب القداح على ابنك وعلى الإبل واعط ربّك حتّى يرضى .
فبعث عبد المطّلب الى اِبله فأحضرها وعزل منها عشراً وضرب بالسهام فخرج سهم عبد اللّه ، فما زال يزيد عشراً عشراً حتّى بلغت مائة ، فضرب فخرج السهم على الإبل ، فكبّرت قريش تكبيرة اِرتجّت لها جبال
(1) الخصال : 156 .
(245)
تُهامة ! فقال عبد المطّلب : لا ، حتّى اَضرب بالقداح ثلاث مرات فضرب ثلاثاً كلّ ذلك يخرج السهم على الإبل ! فلمّا كانت في الثالثة اِجتذبه الزبير وأبو طالب واخواتهما من تحت رجليه فحملوه ـ وكان خدّه على الأرض فانسلخت جلدة خدّه ـ وأقبلوا يرفعونه ويقبّلونه ويمسحون عنه التراب . وأمر عبد المطلب أن تنحر الإبل بالحزورة(1) ولا يمنع أحد منها .
فكانت لعبد المطلب خمس من السنن اَجراها اللّه عزوجل في الإسلام : حرّم نساء الآباء على الأبناء ، وسنّ الديّة في القتل مئة من الإبل ، وكان يطوف بالبيت سبعة أشواط ، ووجد كنزاً(2) فأخرج منه الخمس ، وسمّى زمزم حين حفرها : سقاية الحاج . ولولا اَن عبد المطلب كان حجة وانّ عزمه على ذبح ابنه عبد اللّه شبيهاً بعزم اِبراهيم على ذبح ابنه اِسماعيل لما افتخر النبي صلىاللهعليهوآله بالانتساب اليهما لأجل انهما الذبيحان ، في قوله : أنا ابن الذبيحين . والعلّة الّتي من اَجلها دفع اللّه عزوجل الذبح عن اِسماعيل هي العلّة الّتي من اَجلها دفع القبح عن عبد اللّه ، وهي كون النبي والأئمة المعصومين ـ صلوات اللّه عليهم ـ في صلبيهما ، فببركة النبي والأئمة عليهمالسلام دفع اللّه الذبح عنهما(3) .
قـال اليعقوبي : وكان اسم عبد اللّه (عبد الدار) و (عبد قصي) فلمّا
(1) الحزورة كدحرجة : تل معروف في مكّة كان يتخذ سوقاً ـ كما في الصحاح وقد نقل الخبر ابن اِسحاق في سيرته يقول : فيما يزعمون . ثمّ جاء بالخبر ناسباً الى عبد المطلب أ نّه ذبح للأصنام : وهو مردود بما رويناه سنداً معتبراً عن أئمة أهل البيت
(2) لعلّه ـ كما سبق ـ هو مادفنته جرهم في زمزم من هدايا الكعبة .
(3) عيون أخبار الرضا عليهالسلام 1 : 212 ط لاجوردي .
(246)
كان الفداء قال عبد المطلب : هذا عبد الله فسمّاه به(1) وكان ذلك بعد حفر زمزم بعشر سنين(2) ، ولعبد اللّه 20 سنة .
فربّما يقال هنا : اِن عبد المطلب الّذي قال عنه المؤرخون : انّه كان يقطع يد السارق ، ويمنع من طواف العراة ، وينهى عن دنيّات الاُمور ، تاركاً للأصنام مجاب الدعوة . . كيف يسمّي أبناءه عبد مناف ، ومناف اسم صنم ، وعبد العزّى ، والعزى كذلك وثن من الأوثان ، ثمّ كيف جاز له التصرّف في شـخص غيره ـ ولو ابنه ـ هذا التصرّف ؟ وهل لأحد أنْ يرى صحة نذر كهذا تكون الضحية فيه نفساً محترمة مثل عبداللّه ؟ !
طرح هذا السؤال السيد المرتضى في (الصحيح من السيرة)(3) ثمّ نقل عن المحقق السيد محمد مهدي الروحاني القميّ انّه أشار اِلى : اَننا نلاحظ اَنّ عبد المطّلب قد سار في اِيمانه سيراً تكاملياً ، فنجده في أوّل أمره يسمّي أبناءه عبد مناف وعبد العزّى ، ولكنّه يتقدّم في إيمانه حدّاً يُرهب به اَبرهة الحبشي صاحب الفيل ، ويقول عنه المؤرخون ما ذكروه وذكرناه ، ولا شكّ اَنه بعد ميلاد حفيده محمد صلىاللهعليهوآله لمّا رأى وسمع الكثير من العلامات الدالة على نبوته ، وشهد وعاين الكثير من الدلالات والكرامات باُمّ عينيه ، بلغ الحدّ الأعلى في إيمانه .
وعليه فلا مانع من اَنْ يكون في أوّل أمره يرى لنفسه اَنْ ينذر نذراً كهذا ، وقـد اَمر اللّه نبيّه اِبراهيم بذبح ولده اِسماعيل ، ونذرت امرأة عمران
(1) اليعقوبي 2 : 9 .
(2) اليعقوبي 2 : 9 يعلم ذلك ممّا ذكره في سنّ زواج عبد اللّه .
(3) الصحيح من سيرة النبي الأعظم ( ص ) السيرة 1 : 65 ـ 70 .
(247)
ما في بطنها محرّراً لخدمة بيت المقدس . كما أشار الى هذا ابن شهر آشوب فقـال وتصور عبد المطّلب اَنّ ذبح الولد أفضل قربة لِمَا علم من أمر اسماعيل ، ثمّ ذكر الخبر(1) .
عليهمالسلام .